بسم الله الرحمن الرحيم
(قصص رواها رسول الله ) " القصة الأولي "
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على المبعوث رحمةً للعالمين، سيدنا ونبينا وعظيمنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ..
.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،.
(قصص رواها رسول الله ) ..
قصة اليوم أخرجها الشيخان في صحيحهما عن أبي هريرة ، عن رَسُولِ اللَّهِ
قَالَ :«كَانَ تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا
قَالَ لِفِتْيَانِهِ : تَجَاوَزُوا عَنْهُ ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ
يَتَجَاوَزَ عَنَّا ، فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» .
هذه رواية الصحيحين . رواية النسائي رحمه الله ، قال رسول الله :«إِنَّ
رَجُلًا لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ ، وَكَانَ يُدَايِنُ النَّاسَ،
فَيَقُولُ لِرَسُولِهِ : خُذْ مَا تَيَسَّرَ ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ ،
وَتَجَاوَزْ ؛ لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا ،
فَلَمَّا هَلَكَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ : هَلْ عَمِلْتَ
خَيْرًا قَطُّ ؟ قَالَ : لَا ، إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِي غُلَامٌ ،
وَكُنْتُ أُدَايِنُ النَّاسَ ، فَإِذَا بَعَثْتُهُ لِيَتَقَاضَى قُلْتُ
لَهُ : خُذْ مَا تَيَسَّرَ ، وَاتْرُكْ مَا عَسُرَ ، وَتَجَاوَزْ ؛
لَعَلَّ اللَّهَ يَتَجَاوَزُ عَنَّا . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : نحن أحقُّ
بذلك، قَدْ تَجَاوَزْتُ عَنْكَ».
لقد جمع هذا الرجل بين عملين فاضلين كريمين يدلان على نبله وكرمه ، ومعهما نقف، وعليهما تقوم الحلقة هذه إن شاء الله ..
أما العمل الأول : العفو والتجاوز . فما هو المراد بالتجاوز هنا ؟ يجيبك
ابن حجر العلامة الحبر البحر ، قال رحمه الله :" يَدْخُل فِي لَفْظ
التَّجَاوُز : الْإِنْظَار ، وَالْوَضِيعَة ، وَحُسْنُ التَّقَاضِي ".
ذكر ثلاثة أمور :
الإنظار : بأن يحل الأجل والمدين ليس له شيء فتنظره . وقد قال تعالى : ومن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة .
الثاني : الوضيعة وهي على قسمين : أن تضع عنه الدين كله . أو أن تضع جزءً منه .
الثالث : حسن التقاضي . وقد قال النبي :«رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا
إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وإذا قضى ، وَإِذَا اقْتَضَى» . إذا قضى
وأعطى الدين أحسن ولم يماطل، فإذا وفّى وفى بيسر وسهولة . وإذا اقتضى : أي
: إِذَا طَلَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَى غَرِيمٍ يَطْلُبُهُ بِالرِّفْقِ
وَاللُّطْفِ لَا بِالْخَرْقِ وَالْعُنْفِ .
ومما قاله النبي في فضل السماحة في الاقتضاء :« مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا
أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ» [أخرجه مسلم] . أنظر :
أمهل . وضع عنه : حطّ الدينَ كلَّه أو بعضه . من فعل ذلك كان تحت ظل الله
في يوم تدنو فيه الشمس من الخلائق مقدار ميل .
وقال :« من سره أن ينجيه الله من كرب يوم القيامة وأن يظله تحت عرشه فَلْيَنْظُرْ مُعْسِرًا» .
وفي المسند للإمام أحمد قال :« مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ
يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» . قال بريدة : ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ :«مَنْ
أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ». قُلْتُ :
سَمِعْتُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ تَقُولُ :«مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ
بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلِهِ صَدَقَةٌ» ، ثُمَّ سَمِعْتُكَ تَقُولُ :«مَنْ
أَنْظَرَ مُعْسِرًا فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»؟ فقَالَ
لَهُ :«بِكُلِّ يَوْمٍ صَدَقَةٌ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الدَّيْنُ ، فَإِذَا
حَلَّ الدَّيْنُ فَأَنْظَرَهُ فَلَهُ بِكُلِّ يَوْمٍ مِثْلَيْهِ صَدَقَةٌ»
.
العمل الثاني الذي فاز به هذا الرجل أنّه وقف بجانب المحتاجين ، والتفريج عنهم ، وهذا عمل ندب إليه النبي في كثير من الأحاديث .
فما أحوجَنا للتعرف على مثل هذه النصوص، ولأجلها اخترت الكلام عن هذه القصة .. وهذه بعض النصوص التي تؤكد على هذا الواجب :
لقد ضرب لنا –نحن المسلمين – رسول الله مثلاً .. ، فعن النعمان بن بشير
رضي الله عنهما ، قَالَ : قَالَ رَسُول الله : «مَثَلُ المُؤْمِنينَ في
تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمهمْ وَتَعَاطُفِهمْ ، مَثَلُ الجَسَدِ إِذَا
اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الجَسَدِ بِالسَّهَرِ
والحُمَّى» [متفق عليه]. وفي الصحيحين قال :«المُؤْمِنُ للْمُؤْمِنِ
كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضَاً» وشبَّكَ بَيْنَ أصَابِعِهِ.
فأين نحن من هذه الدرجة التي أراد نبينا أن نقف عليها؟ أين نحن من هذا
الطريق الذي رسمه لنا رسولنا ؟
ومما ذكروه عن الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله أنّ أمّه وجدته يوماً
مهموماً مغموماً فقالت له : هل أصيب مسلمٌ بسوء ؟ فرحمه الله رحمة واسعة .
لا يخفى عليك أيها المستمع الكريم أنّ يوم القيامة يوم عصيب، يوم اكتظ
بالأهوال والصعاب ، يكفي نعت ربنا له بقوله : فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن
كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ، وبقوله : يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا
أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ .
أندري ما هو السبيل للأمن من هذه الأهوال وللخلاص مما يكون فيه من كرب
وشدة .. ويبين لنا ذلك نبينا بقوله في الصحيحين :«وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ
مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ
يَوْمِ الْقِيَامَةِ» .
كثير من الناس يفرح في هذه الدنيا لأنه يعرف الوزير فلان.. أو لأنّ له
خطاً ساخناً مع الوالي فلان.. إذا أراد أن يعين ابنه أو أخته أو بنت ابن
عمه ما عليه إلا أن يحمل خطاباً من ذاك المسؤول فيُلبى طلبه وتُحقق رغبته
.. لكن ماذا لو حظيت بنيل عون الله .. إذا فرح العبيد بعون العبيد ألا
تفرح بعون العزيز المجيد ؟ .. كيف السبيل لذلك.. يجيب نبيك :« وَاللَّهُ
فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ» [مسلم].
فكن في عون أخوانك في مصائبهم يكن الله لك في أمورك كلها . وعند الطبراني
:«لا يزال الله في حاجة العبد ما دام في حاجة أخيه» .
يا من أنعم الله عليه بالصحة والعافية والزوجة والأولاد والمسكن .. إني
سآئلك سؤالاً : هل تحب أن يُبقيَ الله هذه النعم.. هل تحب أن تُمتَّع بها
عمرك .. الإجابة بلا ريب : نعم . أتدري كيف يكون ذلك .. اسمع هذا الحديث
.. عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله :«إن لله عند
أقوام نعماً ، أقرها عندهم ما كانوا في حوائج المسلمين ، ما لم يملوهم ،
فإذا ملوهم نقلها إلى غيرهم» [أخرجه الطبراني]، وفي رواية له : «إن لله
أقواماً اختصهم بالنعم لمنافع العباد ، يقرهم فيها ما بذلوها ، فإذا
منعوها نزعها منهم فحولها إلى غيرهم».
إنّ السعي لقضاء حوائج المسلمين والوقوف معهم أفضل من الاعتكاف في مسجد
النبي .. لست من قضى بذلك، وإنما قضى به من لا ينطق عن الهوى إذ قال :
«ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد يعني مسجد
المدينة شهراً ، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه يوم
القيامة رضى ، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى يقضيها له ثبت الله قدميه يوم
تزل الأقدام» [ابن أبي الدنيا] .
ومما يُستفاد من هذه القصة النبوية :
مشروعية الدَّين ، وقد استدان رسول الله ، وشرع من قبلنا شرع لنا ما لم
يأت في شرعنا ما يخالفه . وقد استدان رسول الله .. ففي سنن ابن ماجةَ
أنّ أعرابياً جاء إِلَى النَّبِيِّ يَتَقَاضَاهُ دَيْنًا كَانَ عَلَيْهِ
، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ لَهُ : أُحَرِّجُ عَلَيْكَ إِلَّا
قَضَيْتَنِي . فَانْتَهَرَهُ أَصْحَابُهُ ، وَقَالُوا : وَيْحَكَ ،
تَدْرِي مَنْ تُكَلِّمُ ؟ قَالَ : إِنِّي أَطْلُبُ حَقِّي . فَقَالَ
النَّبِيُّ :«هَلَّا مَعَ صَاحِبِ الْحَقِّ كُنْتُمْ» . ثُمَّ أَرْسَلَ
إِلَى خَوْلَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَقَالَ لَهَا :«إِنْ كَانَ عِنْدَكِ تَمْرٌ
فَأَقْرِضِينَا حَتَّى يَأْتِيَنَا تَمْرُنَا فَنَقْضِيَكِ» . فَقَالَتْ :
نَعَمْ ، بِأَبِي أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ . فَأَقْرَضَتْهُ ، فَقَضَى
الْأَعْرَابِيَّ وَأَطْعَمَهُ ، فَقَالَ : أَوْفَيْتَ ، أَوْفَى اللَّهُ
لَكَ . فَقَالَ :«أُولَئِكَ خِيَارُ النَّاسِ ، إِنَّهُ لَا قُدِّسَتْ
أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ» .
الأمة التي يأخذ الضعيف حقه فيها بعناء ومشقة دعا عليها النبي ، فكيف
بالأمة والدولة التي تضيع فيها الحقوق . والله المستعان.
من فوائد القصة أنك كما تدين تدان .. ومن زرع العنب جنى مثله، وليس بالشوك
يُجنى العنب .. تجاوز ليتجاوز الله عنك .. اعف يعف الله عنك . إنّ أبا بكر
الصديق لما أقسم أنه لن ينفق على مسطح ابن خالته ؛ لأنه ممن تكلم في
الإفك ماذا قال الله له ؟ قال : وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ
مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ
وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا
تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ .
والتجاوز التسامح في التقاضي وقبول ما فيه نقص يسير (لعل الله) أي عسى
الله (أن يتجاوز عنا) قال الطيبي : أراد القائل نفسه لكن جمع الضمير إرادة
أن يتجاوز عمن فعل هذا الفعل ليدخل فيه دخولا أوليا ولهذا ندب للداعي أن
يعم في الدعاء (فلقي الله) أي رحمته في القبر أو القيامة (فتجاوز عنه) أي
غفر له ذنوبه ولم يؤاخذه بها لحسن ظنه ورجائه أنه يعفو عنه مع إفلاسه من
الطاعات وأفاد بفضل إنظار المعسر والوضع عنه ولو لما قل وأنه مكفر وفضل
المسامحة في الاقتضاء وعدم احتقار فعل الخير وإن قل فلعلها تكون سببا
للرحمة والمغفرة.
تعلمنا القصة أنّ من أحسن الظن بربه كان الله عند حسن ظنه ، لقد قال
الدائن :¬« لَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا» ، فتجاوز
عنه . وقد قال الله تعالى :" أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي فَلْيَظُنَّ
بِي مَا شَاءَ" [حديث صحيح أخرجه الإمام أحمد] .
تعلمنا أحداثها أنّ من رام شيئاً فعليه أن يسلك سبيله، لقد أراد هذا
الدائن عفو الله فسلك سبيله بأن عفا وتجاوز عن الناس .. وهكذا من أراد
فضلَ الله فليسلك سبيله، ولا يكنْ كمن قيل فيه :
ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس .
وفيها جواز الوكالة . وهذه تُستفاد من نصوص كثيرة .
بقيت مسألة أخيرة ، وهي أنّ هذه النصوص التي جاءت فيها عبارة (لم يعمل
خيراً قط) تكلم العلماء عنها ووجهوها . فإن النصوص دالة على أنّ الإيمان
لا يكون مقبولاً بدون عمل . فالإيمان الذي ينفع صاحبه في الآخرة لابد أن
يجتمع فيه ثلاثة أمور :
الأول : قول اللسان . الثاني : اعتقاد القلب . الثالث : العمل . فلابد من
العمل، والعمل من الإيمان. لا نقول : شرط في الإيمان ، بل نقول : العمل من
الإيمان . ولذا قال الله تعالى
وما كان الله ليضيع إيمانكم) أي :
صلاتكم .
أسأل الله أن ينفعنا بما قرئنا، وأن يتقبل من الجميع طاعتهم .
بارك الله فيكم ، وأحسن إليكم ، وأترككم في حفظ الله ورعايته.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
والسلام عليكم رحمة الله .